كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الزَّوَاجِرِ: وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا مِمَّا يُحَرِّمُ الذَّبِيحَةَ أَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَرِّ اسْمِ الثَّانِي- أَوْ مُحَمَّدٍ إِنْ عُرِفَ النَّحْوُ فِيمَا يَظْهَرُ، أَوْ أَنْ يَذْبَحَ كِتَابِيٌّ لِكَنِيسَةٍ أَوْ لِصَلِيبٍ أَوْ لِمُوسَى أَوْ لِعِيسَى أَوْ مُسْلِمٌ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَقَرُّبًا لِسُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِلْجِنِّ فَهَذَا كُلُّهُ يُحَرِّمُ الْمَذْبُوحَ وَهُوَ كَبِيرَةٌ قَالَ: وَمَعْنَى مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذُبِحَ لِلطَّوَاغِيتِ وَالْأَصْنَامِ قَالَهُ جَمْعٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللهِ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَفْظِ الْآيَةِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ ذَبَحَ مُسْلِمٌ ذَبِيحَةً وَقَصَدَ بِذَبْحِهِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى صَارَ مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّوَاجِرِ، وَقَالَ صَاحِبُ الرَّوْضِ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ذَبَحَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرَ، انْتَهَى، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرِّ النَّضِيدِ: وَهَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لِسَيِّدِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرًا عِنْدَهُ فَكَيْفَ الذَّبْحُ لِسَائِرِ الْأَمْوَاتِ؟ انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخُ الْفَاضِلُ مُفْتِيَ الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ فِي كِتَابِهِ فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ (اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا ذَبِيحَةٌ لِكَذَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ فَسَوَاءٌ لَفَظَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْفِظْ، وَتَحْرِيمُ هَذَا أَظْهَرُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِلَّحْمٍ وَقَالَ فِيهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَنَّ مَا ذَبَحْنَاهُ مُتَقَرِّبِينَ بِهِ إِلَى اللهِ كَانَ أَزْكَى وَأَعْظَمَ مِمَّا ذَبَحْنَاهُ لِلَحْمٍ وَقُلْنَا عَلَيْهِ بِاسْمِ اللهِ، فَإِذَا حَرُمَ مَا قِيلَ فِيهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوِ الزُّهَرَةِ فَلَأَنْ يَحْرُمَ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَسِيحِ أَوِ الزُّهَرَةِ أَوْ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ أَوْلَى، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ مُتَقَرِّبًا إِلَيْهِ يَحْرُمُ، وَإِنْ قَالَ فِيهِ بِاسْمِ اللهِ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ قَدْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْكَوَاكِبِ بِالذَّبْحِ وَالْبَخُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُرْتَدِّينَ لَا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُمْ بِحَالٍ؛ لِكَوْنِهِ يَجْتَمِعُ فِي الذَّبِيحَةِ مَانِعَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُونَ بِمَكَّةَ مِنَ الذَّبْحِ لِلْجِنِّ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْجِنِّ انْتَهَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا إِذَا اشْتَرَوْا دَارًا أَوْ بَنَوْهَا أَوِ اسْتَخْرَجُوا عَيْنًا ذَبَحُوا ذَبِيحَةً خَوْفًا أَنْ تُصِيبَهُمُ الْجِنُّ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمُ الذَّبَائِحُ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُ فَتْحِ الْمَجِيدِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا الْعَبَّارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي رِسَالَتِهِ (الدُّرُّ النَّضِيدُ) وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى سَوَاءٌ لَفَظَ بِهِ الذَّابِحُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ لَمْ يَلْفِظْ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ.
تَنْبِيهٌ: السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالذَّبْحِ وَالصَّيْدِ هِيَ بَاسِمِ اللهِ فَقَطْ وَمِنْ زَادَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
وَجْهُ اتِّصَالِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبِلَهُمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُمَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَالُّونَ مُتَّبِعُونَ لِلظَّنِّ وَالْخَرْصِ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْعَاتِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مَا يُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُضِلُّوهُمْ وَيَحْمِلُوهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ الْآثَامِ الَّتِي نَهَتْ تِلْكَ الْآيَاتُ عَنْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، بَلْ لِيَحْمِلُوهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَيْضًا بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ تعالى وَالتَّوَسُّلِ بِهِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ عِبَادَةٌ لَهُ مَعَهُ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى مَا ذَكَرَ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ؛ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَالْكَافِرِينَ الضَّالِّينَ؛ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَالْحَذَرِ مِنْ غِوَايَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَهُ مَا زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلُمَاتِ وَسُنَّةِ اللهِ فِي مَكْرِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ السَّيِّئَاتِ فَقَالَ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ {مَيْتًا} بِسُكُونِ الْيَاءِ وَنَافِعُ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِهَا، وَالتَّشْدِيدُ أَصَلُ التَّخْفِيفِ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الْيَاءُ الثَّانِيَةُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْوَاوِ فِي التَّشْدِيدِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ لِلْعَلَمِ بِهَا مِنَ السِّيَاقِ (وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْإِيجَازِ) عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: وَمَنْ كَانَ مَيْتًا وَالتَّقْدِيرُ: أَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَأُولَئِكَ الشَّيَاطِينِ أَوْ كَأَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكُمْ بِمَا أَوْحَوْهُ إِلَيْهِمْ مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ الَّذِي غَرُّوهُمْ بِهِ، وَمَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ- وَهُوَ نُورُ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْهِدَايَةِ بِالْآيَاتِ- إِلَى الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ. كَمَنْ مَثَلُهُ أَيْ كَمَنْ صِفَتُهُ وَنَعْتُهُ الَّذِي يُمَثِّلُ حَالَهُ هُوَ أَنَّهُ خَابِطٌ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى وَفَسَادِ الْفِطْرَةِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. لِأَنَّهَا قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ وَأَلِفَتْهَا نَفْسُهُ فَلَمْ يَعُدْ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، بَلْ رُبَّمَا يَشْعُرُ بِالتَّأَلُّمِ مِنْهُ فَهُوَ بِإِزَاءِ النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ كَالْخُفَّاشِ بِإِزَاءِ النُّورِ الْحِسِّيِّ هَذَا التَّقْدِيرُ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَصِلُ الْآيَةَ بِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: أَطَاعَةُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِوَحْيِ الشَّيَاطِينِ، كَطَاعَةِ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَمَنْ كَانَ مَيْتًا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ مُتَسَكِّعًا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاوَةِ وَتَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلَالِ فَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ فِي دِينِهِ وَآدَابِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ لِلنَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ الْمُبَيِّنُ لِحَقِيقَةِ حَالِهِ كَمَثَلِ السَّائِرِ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ- ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ الْمَطَرِ؟ وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ النُّورَ بِالدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْمِصْدَاقُ وَاحِدٌ، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمَثَلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ بِأَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ وَأَعْمَالِهِ وَحُسْنِ سِيرَتِهِ فِي النَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ، وَحُجَّةً عَلَى فَضْلِ دِينِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَعُلُوِّ آدَابِهِ عَلَى جَمِيعِ الْآدَابِ.
هَذَا الْمَثَلُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَجُلَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَالْمُرَادُ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ نَزَلَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ صَادِقًا عَلَيْهِمَا ظَاهِرًا فِيهِمَا أَتَمَّ الظُّهُورِ، فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْهَا بَعْضَ آيَاتٍ لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهَا وَإِلَّا لَكَانَ شُمُولُهُ مِنْ بَابِ قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، عَلَى أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلَيْنِ وَاخْتِلَافُهُمَا يُرَجِّحُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ صِدْقِ الْمَثَلِ عَلَيْهِمَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْأَوَّلَ صَاحِبَ النُّورِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ كَذَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ عَزَا أَحَدَهُمَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ: أَنَّ الْأَوَّلَ حَمْزَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ وَعَزَاهُ إِلَى مُقَاتِلٍ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ وَأَوْهَاهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَيِّتًا، وَإِنْ وَرَدَ فِي سُورَةِ الضُّحَى أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا أَيْ لَا يَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنَ الْحِيرَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنْ أَمْرِ إِصْلَاحِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَلَا الْكِتَابَ وَلَا الْإِيمَانَ التَّفْصِيلِيَّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الثَّانِيَ فِي الْمَثَلِ هُوَ أَبُو جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى، قَالَ الرَّازِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَمَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرْثٍ (وَهُوَ مَا فِي الْكِرْشِ) وَحَمْزَةُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُؤْمِنْ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ صَيْدٍ لَهُ وَالْقَوْسُ بِيَدِهِ فَعَمَدَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَتَوَخَّاهُ بِالْقَوْسِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَمَا تَرَى مَا جَاءَ بِهِ؟ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنْتُمْ أَسَفَهُ النَّاسِ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ إِنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بِالشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ. وَقِصَّةُ إِلْقَاءِ فَرْثِ الْجَزُورِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ مَشْهُورَةٌ، وَكَذَا قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّزْيِينِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْمَثَلُ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ تَزْيِينُ نُورِ الْهُدَى وَالدِّينِ لِمَنْ أَحْيَاهُ اللهُ تِلْكَ الْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ الْعَالِيَةَ، وَتَزْيِينُ ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ لِمَوْتَى الْقُلُوبِ قَدْ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ الْآثَامِ كَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ وَإِحْلَالِ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ بُنِيَ فِعْلُ التَّزْيِينِ هُنَا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ، فَالْأَوَّلُ تَزْيِينُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ، وَالثَّانِي تَزْيِينُ عَمَلِ الْكَافِرِ لِلْكَافِرِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذَكَرْ فِي الْمُشَبَّهِ إِلَّا النَّوْعُ الثَّانِي لِأَنَّ السِّيَاقَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْأَوَّلُ فِي الْمَثَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيهِ لِبَيَانِ قُبْحِ الضِّدِّ بِمُقَابَلَتِهِ بِحُسْنِ ضِدِّهِ، وَالَّذِي يُزَيِّنُ لِلْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ هُوَ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ كَمَا قَالَ فِي خِطَابِهِ لِلْبَارِي تعالى: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [15: 39] وَسَائِرُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 112 وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَإِقَامَتِهِ نِظَامَ الْكَوْنِ بِسُنَنِ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَتَقَدَّمَ إِسْنَادُ تَزْيِينِ الْأَعْمَالِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي الْآيَةِ 43 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [3: 14] مَا يُسْنَدُ مِنَ التَّزْيِينِ إِلَى اللهِ تعالى وَمَا يُسْنَدُ مِنْهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَا يُبْنَى فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص196 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ يُعْلَمُ ضَعْفُ اسْتِدْلَالِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِالْآيَةِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} اخْتُلِفَ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ هُنَا، فَاسْتَنْبَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا السُّورَةُ وَهِيَ بَيَانُ حَالِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي كُفْرِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِغْرَاءِ أَكَابِرِهِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَتَقْدِيرُهُ: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْأُمَمِ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرُ بِبِدْعٍ مِنَ الْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ، بَلْ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَكَابِرِ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَاسْتَنْبَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَجَعَلَ الْقَرِينَةَ لَهُ لَفْظِيَّةً فَقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَكَمَا زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ إِلَخْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مُزَيَّنَةٌ لَهُمْ جَعَلَنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا فَزُيِّنَ لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْبَشَرِ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ فِي عَدَاوَةِ الرُّسُلِ وَمُقَاوَمَةِ الْإِصْلَاحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ.
وَلَفْظُ أَكَابِرَ جَمْعُ أَكْبَرَ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِالْعُظَمَاءِ أَيِ الرُّؤَسَاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَبِيرٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَوْ قِيلَ هُوَ جَمْعُ كَبِيرٍ فَجُمِعَ أَكَابِرَ لَكَانَ صَوَابًا. وَاسْتَدَلَّ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ الْأَكَابِرَةُ وَالْأَصَاغِرَةُ وَالْأَكَابِرُ وَالْأَصَاغِرُ بِغَيْرِ الْهَاءِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِمَا جَاءَ مِنَ النُّعُوتِ عَلَى أَفْعَلَ إِذَا أَخْرَجُوهَا إِلَى الْأَسْمَاءِ مِثْلُ جَمْعِهِمُ الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ: الْأَحَامِرَ وَالْأَحَامِرَةَ وَالْأَسَاوِدَ وَالْأَسَاوِدَةَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْأَحَامِرَةَ الثَّلَاثَةَ أَهْلَكَتْ ** مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدَمًا مُولَعًا

وَذَكَرَ الْبَيْتَ الثَّانِي الَّذِي بَيَّنَ الشَّاعِرُ فِيهِ الْأَحَامِرَةَ وَهِيَ اللَّحْمُ وَالْخَمْرُ وَالزَّعْفَرَانُ مِنَ الطِّيبِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي رِوَايَتِهِ وَهُوَ لِلْأَعْشَى.
وَالْمُجْرِمُونَ: أَصْحَابُ الْجُرْمِ أَوْ فَاعِلُو الْإِجْرَامِ وَهُوَ مَا فِيهِ الْفَسَادُ وَالضَّرَرُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَالْقَرْيَةُ: الْبَلَدُ الْجَامِعُ لِلنَّاسِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْزِيلِ بِمَعْنَى الْعَاصِمَةِ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ، أَيِ الْمَدِينَةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي يُقِيمُ فِيهَا زُعَمَاءُ الشَّعْبِ وَأُولُو أَمْرِهِ، وَكَذَا بِمَعْنَى الشَّعْبِ أَوِ الْأُمَّةِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْبَلَدِ فَيَقُولُونَ: ثَرْوَةُ الْبَلَدِ وَمَصْلَحَةُ الْبَلَدِ- أَيِ الْأُمَّةِ- وَالْمُعَاهَدَاتُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ تَقْتَضِي كَذَا- أَيْ بَيْنَ الْأُمَّتَيْنِ أَوِ الدَّوْلَتَيْنِ. و{جَعَلْنَا} مُتَعَدِّيَةٌ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلِمَفْعُولَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهَا، فَلَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ أَشْهَرَ الْأَقْوَالِ بِقَوْلِهِ: أَيْ كَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا. و{جَعَلْنَا} بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَمَفْعُولَاهُ {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} عَلَى تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي- أَوْ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ، وَمُجْرِمِيهَا بَدَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ إِنْ فُسِّرَ الْجَعْلُ بِالتَّمْكِينِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ جَازَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالْمُطَابَقَةُ، وَلِذَلِكَ قُرِئَ (أَيْ فِي الشَّوَاذِّ) {أَكْبَرَ مُجْرِمِيهَا} انْتَهَى. وَرَجَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ.
وَالْمَكْرُ: صَرْفُ الْمَرْءِ غَيْرَهُ عَمَّا يُرِيدُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنَ الْحِيلَةِ فِي الْفِعْلِ أَوِ الْخِلَابَةِ فِي الْقَوْلِ، وَالْأَكْثَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَعَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ قَلَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى إِخْفَائِهِمَا بِالْحِيلَةِ وَالْخِلَابَةِ.
وَنَقُولُ فِي الْعِبْرَةِ بِالْآيَةِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ هَذَا الْعَصْرِ: إِنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ قَدْ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَاصِمَةٍ لِشَعْبٍ أَوْ أُمَّةٍ أَوْ كُلِّ قَرْيَةٍ وَبَلْدَةٍ بُعِثَ فِيهَا رَسُولٌ أَوْ مُطْلَقًا رُؤَسَاءُ وَزُعَمَاءُ مُجْرِمُونَ يَمْكُرُونَ فِيهَا بِالرُّسُلِ، أَوْ بِأَنْ يَكُونَ أَكَابِرُهَا الْمُجْرِمُونَ مَاكِرِينَ فِيهَا بِالرُّسُلِ فِي عَهْدِهِمْ، وَبِسَائِرِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَكْثَرِ أَكَابِرِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ- وَلاسيما فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْمَطَامِعُ وَيَعْظُمُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ- يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِمْ وَجَمَاعَاتِهَا لِيَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ وَيُعَزِّزُوا كِبْرِيَاءَهُمْ وَيُثَمِّرُوا مَطَامِعَهُمْ فِيهَا، وَيَمْكُرُ الرُّؤَسَاءُ وَالسَّاسَةُ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ لِإِرْضَاءِ مَطَامِعِ أُمَّتِهِمْ وَتَعْزِيزِ نُفُوذِ حُكُومَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ. وَقَدْ عَظُمَ هَذَا الْمَكْرُ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَصَارَ قُطْبَ رَحَى السِّيَاسَةِ فِي الدُّوَلِ، وَعَظُمَ الْإِفْكُ بِعِظَمِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ، وَقَدْ كَتَبْنَا مَقَالًا فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَشَرْحِ عِلَلِهِ وَأَسْبَابِهِ عُنْوَانُهُ (دَوْلَةُ الْكَلَامِ الْمُبْطِلَةُ الظَّالِمَةُ) نُشِرَ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ.
وَهَذَا الْعُمُومُ فِي الْآيَةِ صَحِيحٌ وَاقِعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْعِلْمِ بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، وَلَا تَظْهَرُ صِحَّةُ الْعُمُومِ فِي الْقُرَى وَالْأَكَابِرِ جَمِيعًا بِجَعْلِ جَمِيعِ الْأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ فِي جَمِيعِ الْقُرَى، أَوْ بِجَعْلِ جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ فِيهَا أَكَابِرَ أَهْلِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِجْرَامُ هُوَ سَبَبَ كَوْنِهِمْ أَكَابِرَهَا، بَلْ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِكَوْنِ أَكْثَرِ الْأَكَابِرِ الزُّعَمَاءِ مُجْرِمِينَ مَاكِرِينَ وَلاسيما فِي الْقُرَى الَّتِي اسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ بِحَسَبِ سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [17: 16] وَلاسيما عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِمَا نُرْسِلُ بِهِ الرُّسُلَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَمَا يَلْزَمُهُ- حَتْمًا- مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْعَدْلِ، فَفَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى الرُّسُلِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [14: 13] فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} كَثَّرْنَاهُمْ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقِلَّةَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ لَا تَتَحَقَّقُ عَادَةً إِلَّا إِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْأَكَابِرِ مِنْهُمْ.